دحباش... والظل الحزين

  همدان دماج

شمس الظهيرة تنعكس أشعتها الحارقة على الحجارة المصقولة لساحة المبنى الأثري الذي أصبح الآن وفي نقلة مفاجئة المقر الجديد لوزارة الثقافة التي أنهكها الحال والترحال. ضجيج ميدان التحرير يملئ ساحة المبنى الحجري ليمتزج مع أصوات العشرات من الزوار "المشارعين" والموظفين الذين انتشروا بعشوائية على أرجاء الساحة... جميعهم ملامحهم معروفة يجمعهم هدف واحد في تلك اللحظة: العثور على "أمين الصندوق"... لم يملّوا من البحث عنه، وهو لم يملّ يوماً من لعبة الاختفاء والهروب والمطاردات المعتادة. وفجأة ظهر زائر جديد في وسط الساحة، لكن وجهه كان معروفاً جداً... إنه بلا شك الفنان آدم سيف... أو لنقل ببساطة "دحباش"... ومن منا لا يعرف "دحباش"!! ومن منا لم يضحك حتى الإغماء وهو يتابع المسلسل الكوميدي الشهير منذ أعوام بعيدة...!!

 
دحباش

لكن "دحباش" الذي رأيته في ساحة وزارة الثقافة لم يكن هو نفسه دحباش الذي منحنا لحظات لا تنسى من الضحك والسعادة... كان شخصاً آخر... حزيناً ومنهكاً بكل ما تعنيه الكلمة... مهموماً حد الكآبة... أشعث الشعر... له لحية نبتت على وجهه المتعب بعشوائية تشبه إلى حد كبير لحية مدرس عنيد في "معهد إسلامي"... يلبس بذلة لم يتمكن لونها الفاتح من إخفاء ما تراكم عليها من أوساخ يومٍ طويل. كان يتحرك ببطء... عرفت أنه لم يعد في تلك الساحة سوى واحد من "المشارعين" الكثر... سلمت عليه وسألته عن حاله، فرد عليّ باقتضاب:

- لا بأس... مش تمام...

لم أعرف "دحباش" عن قرب... أقصد الفنان الكبير آدم سيف... لكنني، وكغيري من اليمنيين، عرفته فناناً ونجماً كوميدياً من الطراز الأول... وربما كان في فترة ما أكثر الفنانين شهرة في بلادنا... كان المعادل الكوميدي لشخصية "غوار" في السينما السورية، أو "تشارلي شابلن" في السينما الأمريكية... أو حتى "مستر بن" في السينما البريطانية. نعم... كان يعادل هذه الشخصيات الكوميدية التي ذاع صيتها، وطبعت عنها عشرات، إن لم تكن مئات، من الدراسات والأبحاث والكتب... وأقيمت العشرات من الندوات حولها... وخصصت لها فصول في مناهج الدراما.. أو حتى في علم النفس. أما "دحباش" صاحب أشهر شخصية كوميدية في تاريخ الدراما اليمنية المتواضعة، وصاحب أشهر كلمة محلية تداولتها الأوساط الشعبية والسياسية في الفترة الأخيرة من تاريخ اليمن المعاصر، فلم يكتب عنه أي دراسة أو بحث رصين بل كتب عليه أن يكون "مشارعاً" من جملة "المشارعين" الذي يمتلئ بهم وطننا الحبيب.

عندما رأيته كنت أود لو أنني هرعت إليه لأطلب منه توقيعاً أو لأطلب من أحد "المشارعين" في الساحة أن يتكرم باستخدام تلفونه الجوال المزود بكاميرا لأخذ صورة تذكارية، سأحرص لاحقاً على الحصول عليها... أقول كنت أود أن أفعل ذلك، لكنني أصبحت، وبعد سنوات قليلة من عودتي من الدراسة في الخارج، محصناً من هكذا سلوك... فاكتفيت بأن صافحته بحرارة وبلطف كبير متعللاً بأنني قد أكون واحداً من قلائل سيصافحونه بهذه الطريقة الأنيقة... وغادرت وأنا أفكر وأتساءل مثل غيري عن حال المبدعين في بلادنا السعيدة، التي يسعدنا دائماً حبها رغم الظل الحزين للفنان الكبير "آدم سيف" الذي ارتسم على الساحة وهو يعبر آخر حجارتها المصقولة ليدخل باب المبنى التاريخي ويختفي عن الأنظار.