لماذا تبقى الدول الفقيرة على فقرها؟
في الطريق الوعرة إلى أسوأ مكتبة في العالم تكمن الإجابة على هذا السؤال

تأليف: تيم هارفرد  *
ترجمة: د.  همدان دماج **

"Why Poor Countries are Poor?" Reason Magazine, March 2006.

 

توطئة

تعرض هذه المقالة عدداً من القضايا الاقتصادية المتعلقة بالدول الفقيرة كما يراها الكاتب الاقتصادي البريطاني تيم هارفرد، الذي يحاول من خلالها الوصول إلى إجابة سؤال في غاية الأهمية: لماذا تظل هذه الدول على فقرها؟ وهو يقوم بذلك عبر سرد انطباعاته الخاصة لزيارة قام بها إلى الكاميرون عام 2003. ومع أن النطاق الجغرافي لهذه المقالة ينحصر في الكاميرون، إلا أن القضايا التي تناقشها، من انتشار الفساد وسوء نظام التعليم وركاكة البنى التحتية، إلى غياب الديمقراطية والعمل المؤسسي، يمكن أن تنطبق على أي دولة من دول العالم الثالث، الفقير، الذي تتشابه مشكلاته الاقتصادية والإدارية إلى حد كبير . (المترجم)


هل هناك ما يمكن القيام به؟

تُعرف مدينة "دوالا"، الواقعة في الجنوب الغربي للكاميرون، بـ"إبط أفريقيا"، وهي مدينة ذات رطوبة عالية، موبوءة بالملاريا، نتنة وغير جذابة. في مساء حار أواخر عام 2001، خرجت من مطار "دوالا" الدولي الذي يعج بالفوضى، يرشدني صديقي أندرو، وسائقه سام، الذي أتجه بنا مباشرة إلى بلدة "بويا" الباردة المرتفعة؛ هذا إذا أمكنك على الإطلاق الخروج من "دوالا" إلى أي مكان؛ فهذه المدينة التي يقطنها مليونا نسمة لا توجد بها طرق بالمعنى الحقيقي.

 يصل عرض شوارع "دوالا" إلى خمسين ياردة في أحسن الأحوال. وهي دائماً مكتظة بالباعة المتجولين، الذين يقفون مترهلين بجانب صحن من الفول السوداني أو شواء موز غير ناضج، وبمجاميع صغيرة من الناس متحلقين حول دراجة نارية، يشربون الجعة أو نبيذ النخيل، ويطبخون الطعام على نارٍ صغيرة. أكوامٌ من المخلفات وفراغات واسعة تنبئ عن أعمال بناء غير مكتملة أو أعمال هدم لم تنجز. وفي الوسط يمتد شريط من الحفر، كان قبل عشرين عاماً طريقاً.

وعلى طول هذا الشريط تتحرك أربعة صفوف من السيارات، معظمها من سيارات الأجرة. عادة ما تكون الصفوف الخارجية مزدحمة بسيارات الأجرة المتوقفة للتفاوض مع الركاب على الأجرة أو تسلُّمها منهم. أما في الصفوف الداخلية فتشق السيارات طريقها بعشوائية غير متوقعة، كما لو أنها كرات "بينغ بونغ" تتقافز داخل آلة "يانصيب".

كانت "دوالا" في الماضي تمتلك حافلات نقل؛ لكنها لم تعد قادرة على التعامل مع الطرق المتهالكة؛ لهذا فإن سيارات الأجرة هي كل ما تبقى، وهي سيارات قديمة متهالكة، من طراز "تويوتا"، تقل أربعة ركاب في الخلف وثلاثة في الأمام، مطلية باللون الأصفر، ولكل منها شعارها الخاص: "الله أكبر"، "بالله نثق"، و"مدعوم من الله"...

لا يمكن لأي زائر، وهو يرى شوارع "دوالا"، أن يخلص إلى كون الكاميرون فقيرة بسبب غياب روح المبادرة فيها؛ لكنها على الرغم من ذلك تظل فقيرة، فالمواطن الكاميروني العادي هو أكثر فقراً بثماني مرات من المواطن العادي في العالم، وحوالي بخمسين مرة من المواطن الأميركي العادي، ولا تزال الكاميرون تزداد فقراً. هل هناك ما يمكن القيام به بدلاً من ذلك لعكس خط الانهيار ومساعدة الكاميرون لتصبح أكثر ثراءً؟

ليس هذا السؤال بالبسيط؛ فكما يوضح الخبير الاقتصادي الحائز على جائزة نوبل، روبرت لوكاس(*): "إن ما تنطوي عليه مثل هذه الأسئلة من نتائج متوقعة لرفاهية البشر يعد أمراً مدهشاً؛ فما إن يبدأ المرء بالتفكير فيها، حتى يكون من الصعب أن يفكر في أي شيء آخر".

 

 

القطعة المفقودة من الأحجية

اعتاد الاقتصاديون الاعتقاد أن الثروة هي نتاج مزيج من: الموارد التي يصنعها الإنسان (الطرق، المصانع وشبكات الهاتف)، الموارد البشرية (العمل الجاد والتعليم)، والموارد التكنولوجية (الدراية التقنية، أو ببساطة: المعدات التكنولوجية العالية). لقد استطاعت الدول الفقيرة أن تنمو وتصبح غنية عن طريق استثمار الأموال في مواردها المادية وتحسين مواردها البشرية والتكنولوجية، مستفيدة من برامج الانتقال التعليمية والتكنولوجية.

للوهلة الأولى، تبدو الصورة جلية في ما سبق ذكره، فالتعليم والمصانع والبنى التحتية والدراية التقنية جميعها متوفرة في الدول الغنية، بينما تفتقر إليها الدول الفقيرة. غير أن هذه الصورة في حقيقة الأمر غير مكتملة، وهي شبيهة بلعبة أحجية خشبية ما تزال أهم قطعة فيها مفقودة.

إن الدليل الأول على أن هناك شيئاً مفقوداً في القصة التقليدية هو الإيحاء بأن الدول الفقيرة كان ينبغي عليها اللحاق بركب الدول الغنية خلال القرن الماضي، وأنه كلما كانت الدول الفقيرة أكثر تخلفاً كان لا بد أن يكون لحاقها بركب الدول المتقدمة أسرع. ففي الدول التي لم يعد لها سوى القليل لإنجازه في مجال التعليم أو استكمال البنى التحتية، يكون للاستثمارات الجديدة أوفر الحظوظ من العائدات. إن مثل هذه التوقعات هي ما تؤكده، على ما يبدو، تجارب: الصين، تايوان، وكوريا الجنوبية، ناهيك عن بوتسوانا، تشيلي، الهند، موريشيوس، وسنغافورة. فقبل خمسين عاماً، كانت هذه الدول غارقة في الفقر، مفتقرة إلى الموارد البشرية والتقنية، وفي بعض الأحيان إلى الموارد الطبيعية أيضاً. إن هذه الدول الديناميكية (وليس اليابان، الولايات المتحدة، أو سويسرا) أصبحت اليوم أسرع الاقتصاديات نمواً في العالم.

لقد أصبحت التكنولوجيا اليوم متوفرة ورخيصة على نطاق واسع ومتزايد، ولهذا فإن خبراء الاقتصاد يتوقعون أن تقوم باستغلالها كل دولة من الدول النامية. ففي عالم تتضاءل فيه الأرباح والمكاسب الاقتصادية، تحرز الدول الأكثر فقراً الاستفادة القصوى من استخدام التكنولوجيا الجديدة، ومن الاستثمار في مجالي التعليم والبنى التحتية. فعلى سبيل المثال: استطاعت كوريا الجنوبية اكتساب التكنولوجيا عن طريق تشجيع الشركات الأجنبية للاستثمار، أو عن طريق دفع رسوم الترخيص لهذه الشركات. وعلى الرغم من دفع الرسوم ومن قيام الشركات الأجنبية المستثمرة بإرسال أرباحها إلى أوطانها، إلا أن المكاسب التي تحققت للعمال الكوريين والمستثمرين المحليين، إذا ما تم النظر إليها من خلال النمو الاقتصادي، كانت أكبر بخمسين ضعفاً من الرسوم التي دُفعت والأرباح التي غادرت البلاد.

أما في ما يخص الاستثمار في مجالي التعليم والبنى التحتية، فإن العائدات تبدو عالية جداً، بحيث لا ينبغي أن يكون هناك أي نقص في عدد المستثمرين الراغبين في تمويل مشاريع البنى التحتية أو إقراض الأموال للطلاب (أو للحكومات التي تقوم بتوفير التعليم). فالبنوك، محلية كانت أم أجنبية، يجب أن تتنافس في إقراض الناس المال لإكمال مراحل تعليمهم، أو لبناء طريق أو محطة توليد كهرباء جديدة. في المقابل، ينبغي للفقراء، أو للدول الفقيرة أن تكون سعيدة للغاية لحصولها على قروض من هذا القبيل؛ لثقتها من كون العائدات الاستثمارية ستكون كبيرة جداً، بحيث لن يصعب عليها تسديد تلك القروض. وحتى إن لم يحدث ذلك لسبب ما، فإن البنك الدولي (الذي تم إنشاؤه بعد الحرب العالمية الثانية بهدف إقراض الدول من أجل إعادة الإعمار والتنمية) يمنح الدول النامية قروضاً بمليارات الدولارات سنوياً. من الواضح هنا أن استثمار الأموال لم يكن هو المشكلة؛ فإما أن هذه الاستثمارات لم تتم أبداً، وإما أنها لا تحقق العائدات التي يتنبأ بها النموذج الاقتصادي التقليدي.

نظرية "الحكومة اللصة"

 بينما كانت السيارة تترنح ببطء على الطريق، متصادمة مع المارة المزدحمين، حاولتُ أن أصل إلى فهم الوضع كاملاً عن طريق طرح أسئلة على السائق (سام) عن البلاد.

-      سام! متى كانت آخر مرة تم فيها إصلاح الطرق؟

-      لم يتم إصلاح الطرق منذ 19 عاماً.

وصل الرئيس بول بايا إلى السلطة في نوفمبر 1982. وفي الوقت الذي زرت فيه الكاميرون كان ما يزال في منصبه منذ 19 عاماً، وظل كذلك بعد أربع سنوات(*). وصف معارضيه مؤخراً بأنهم "سياسيون هواة"، مؤكداً أنهم أصبحوا خارج اللعبة السياسية.

-      ألا يشتكي الناس من حال الطرق؟

-      بلى، يشتكون؛ لكن لم يتم فعل شيء. الحكومة تقول لنا إنها لا تملك المال، لكن هناك الكثير من الأموال القادمة من البنك الدولي، ومن فرنسا وبريطانيا والولايات المتحدة... لكنهم يضعونه في جيوبهم. إنهم لا ينفقونه على الطرق.

-       هل هناك انتخابات في الكاميرون؟

-       نعم! هناك انتخابات. الرئيس بايا يُعاد انتخابه دائماً بأغلبية 90 في المائة.

-      وهل حقاً أن 90 في المائة من الناس يصوتون لصالح الرئيس بايا؟

-       كلا، لا يفعلون ذلك، فهو لا يحظى بشعبية كبيرة؛ لكنه رغم ذلك يحصل على أغلبية 90 في المائة.

ليس على المرء أن يقضي وقتاً طويلاً في الكاميرون ليدرك حجم استياء الناس من الحكومة؛ فمعظم الأنشطة الحكومية تبدو وكأنها صُممت خصيصاً لسرقة المال من الشعب الكاميروني. تعد الكاميرون، وفقاً لمنظمة الشفافية الدولية، واحدة من أكثر الدول فساداً في العالم. لقد تم تحذيري بشكل واضح من الفساد الحكومي، ومن احتمال أن يقوم المسؤولون في المطار من أخذ ما بحوزتي من فرنكات، لدرجة أني كنت متوتراً من إمكانية حدوث ذلك أكثر من خطر الإصابة بالملاريا أو السلب تحت تهديد السلاح في الشوارع الخلفية لـ"دوالا".

لدى كثيرٍ من المواطنين نظرة متفائلة تجاه السياسيين وموظفي الخدمة المدنية، في كونهم جميعاً في خدمة الشعب، ويبذلون قصارى جهدهم لرعاية مصالح البلاد. غير أن هناك آخرين يشككون في ذلك بدرجة كبيرة، مشيرين إلى أن العديد من السياسيين عديمو الكفاءة، وعادة ما يقايضون المصلحة العامة لصالح فرصهم في إعادة انتخابهم.

يعرض الخبير الاقتصادي مانكيور أولسون(*) أنموذجاً عملياً افتراضياً(**) يبين فيه أن دوافع الحكومة ما تزال أكثر قتامة، واضعاً نظرية مفادها أن الديكتاتوريات المستقرة تضر النمو الاقتصادي بدون شك، إذا ما قورنت بالديمقراطيات؛ لكنها تظل على أية حال أفضل من حالة الفوضى واللااستقرار.

يفترض أولسون في أنموذجه هذا أن الحكومات هي مجرد عصابات، مجموعات من قطاع الطرق تملك السلاح وتسلب كل شيء. لقد كانت هذه هي نقطة البداية في تحليله، وهي وجهة نظر لن تجد أي صعوبة في تقبلها بعد خمس دقائق من محاولة فهم ما يدور من حولك في الكاميرون. وكما قال لي السائق سام: "هناك الكثير من المال... لكنهم يضعونه في جيوبهم".

لنتخيل أن دكتاتوراً، مستعيناً بعصابة من جيشه، استولى على السلطة لمدة أسبوع واحد، وأنه يقوم بعمليات تمشيط عسكرية آخذاً ما يشاء قبل أن يرحل. ولنفترض أن هذا الدكتاتور لم يكن بالحاقد ولا بطيب القلب، لكنه فقط حريص على مصلحته الذاتية، وليس لديه أي نية لترك أي شيء، إلا إذا كان يعتزم العودة في العام المقبل. لكن لنفترض أيضاً أن زعيم العصابة هذا أحب مناخ منطقة معينة في البلاد، وقرر أن يستقر فيها، وأن يبني قصراً، مشجعاً جيشه على الاستفادة من السكان المحليين.

فبرغم ما قد ينطوي عليه هذا من جور، إلا أن السكان المحليين ربما يكونون الآن أفضل حالاً بعد أن قرر هذا الدكتاتور البقاء في البلاد. إن دكتاتوراً ذا أطماع ذاتية محضة سوف يدرك أنه لن يكون في مصلحته تدمير الاقتصاد وتجويع الشعب إذا ما كان ينوي البقاء؛ لأنه إذا فعل ذلك فسوف يستنفد جميع الموارد، ولن يتبقى شيء لسرقته في العام التالي؛ لذلك فإن الدكتاتور الذي يضع الأساس لادعاء ملكيته الأرض هو أفضل من ذلك الذي يتنقل باستمرار بحثاً عن ضحايا جدد لنهبهم.

 لا أستطيع أن أؤكد ما إذا كان الرئيس بايا يناسب وصف أولسون في أنموذجه للدكتاتور ذي الأطماع الذاتية؛ لكنه إذا كان كذلك، فلن يكون في مصلحته نهب الكثير من ثروات الشعب الكاميروني؛ لأنه لن يجد شيئاً لنهبه في العام المقبل. فطالما ظل هذا الدكتاتور يشعر بالأمان خلال فترة ولايته، فإنه لن يرغب في قتل "الدجاجة التي تبيض ذهباً"، شأنه في ذلك شأن الفيروسات التي تعتمد حياتها على بقائها في الأجسام المصابة. وبالتالي فإن من مصلحة الرئيس بايا المحافظة على حيوية الاقتصاد الكاميروني، لكي يستطيع أن يجد ما يسرقه.

إن ذلك كله يوحي بأن الزعيم الواثق من بقائه في السلطة لمدة 20 عاماً سوف يفعل ما بوسعه لتنمية اقتصاد بلاده، أكثر من ذلك الذي يتوقع أن يفر من البلاد بعد 20 أسبوعاً؛ فعشرون عاماً من "انتخاب" دكتاتور هي، على الأرجح، أفضل من عشرين عاماً من الانقلابات المتوالية.

ولنبقى مع الافتراض التبسيطي عن أن الرئيس بايا يتمتع بسلطة مطلقة في توزيع الدخل في الكاميرون، وأنه قد قرر نهب، لنقُلْ، نصف هذا الدخل سنوياً على شكل "ضرائب" تصب في حسابه البنكي الخاص. إن هذا بطبيعة الحال لن يشكل خبراً سيئاً لضحاياه فقط، بل لنمو الكاميرون على المدى الطويل. لنأخذ مثلاً رجل أعمال صغيراً يفكر في استثمار 1000 دولار لشراء مولد كهربائي جديد لمشْغَله، وأن هذا الاستثمار يتوقع منه أن يدر دخلاً قدره 100 دولار في السنة، أي أنه سيدر ربحاً جيداً بمقدار 10 في المائة. لكن بما أن الرئيس بايا قد يأخذ النصف من ذلك، فإن الفائدة سوف تقل إلى 5 في المائة. وهو ما سيحتم على رجل الأعمال عدم الخوض في هذا الاستثمار، وبالتالي سيفوت على نفسه، وعلى الرئيس بايا أيضاً، فرصة ربح مؤكدة.

لا يعتقد أولسون في فرضيته أن الدكتاتوريات المستقرة قادرة على القيام بعمل نافع لبلدانها، فكل ما تفعله هو مجرد إلحاق ضرر بالاقتصاد أقل مما يمكن أن تلحقه الدكتاتوريات غير المستقرة. بطبيعة الحال، قد يقوم الرئيس بايا باستثمارات خاصة به، على سبيل المثال: إقامة الطرق والجسور لتشجيع التجارة. وعلى الرغم من كون هذه الاستثمارات مكلفة على المدى القصير، إلا أنها ستساعد على تحقيق ازدهار اقتصادي يوفر للرئيس بايا المزيد من الفرص للسرقة في وقت لاحق. لكن هنا ستنطبق عليه نظرية "الوجه الآخر من مشكلة رجل الأعمال": لن يتمكن الرئيس بايا من سرقة إلا نصف الفوائد، الأمر الذي لن يكون كافياً لتشجيعه على توفير ما تحتاجه الكاميرون من البنى التحتية.

عندما جاء الرئيس بايا إلى السلطة عام 1982، كانت الطرق التي ورثها من الحقبة الاستعمارية غير منهارة تماماً(*). ولو أنه ورث بلداً بدون أية بنية تحتية، لكان في مصلحته -إلى حد ما- أن يقوم ببنائها؛ غير أن وجودها أصلاً جعل الرئيس بايا يقوم بحساباته في جدوى إصلاحها، أو فيما إذا كان يمكنه ببساطة العيش عالة على التركة التي خلفها حكام الاستعمار في الكاميرون. في عام 1982 ربما اعتقد الرئيس بايا أن الطرق ستستمر على حالتها حتى التسعينيات، وهي السنوات التي توقع أنه سيظل خلالها ممسكاً بمقاليد السلطة. وهكذا قرر أن يعيش عالة على رأس مال الماضي، ولم يكلف نفسه عناء الاستثمار في أي نوع من أنواع البنية التحتية لشعبه. فطالما كان هناك ما يكفي لاستمرار حكمه، لم يكن هناك ما يستوجب إنفاق الأموال عليه، خاصة وأن هذه الأموال يمكن أن تذهب مباشرة إلى صندوق تقاعده الشخصي!

اللصوص، اللصوص في كل مكان

قد لا يكون الرئيس بايا هو من يتحكم بزمام الأمور كلياً كما قد يبدو من أول وهلة. إن القيام بسفريات قليلة داخل الكاميرون تمكنك من معرفة ما إذا كان بايا هو الرئيس المطلق للعصابة المسلحة التي تحكم البلاد، أم أن هناك العديد من قطاع الطرق الصغار الذين يتوجب إرضاؤهم.

إذا أردت أن تسافر براً من بلدة "بويا" إلى بلدة "بامندا" في الشمال، فإن الطريقة الأكثر شعبية للقيام بذلك هي ركوب الحافلة. تقوم الحافلات الصغيرة (Minibuses) في الكاميرون بجميع رحلات المسافات الطويلة. إنها مُصمَّمَةٌ لجلوس عشرة ركاب في وضع مريح، وهي تغادر فوراً بمجرد أن يكتمل عدد ركابها الثلاثة عشر. وبما أن المقعد الذي بجانب السائق عادة ما يكون هو الأكثر رحابة، فإنه يستحق الاقتتال من أجله. وعلى الرغم من كون معظم السيارات قديمة ومتهالكة، إلا أن نظام النقل يعمل بشكل جيد، ولولا وجود الحواجز الكثيرة على الطريق لكان بإمكانه أن يعمل بشكل أفضل.

يقوم رجال الشرطة الفوضويون، والذين عادة ما يكونون ثملين، بإيقاف كل حافلة، باذلين قصارى جهدهم لانتزاع الرشاوى من المسافرين. وعلى الرغم من أنهم عادة ما يفشلون في ذلك، إلا أنهم يصبحون من وقت إلى آخر أكثر تصميماً. في إحدى المرات تم إخراج صديقي أندرو من الحافلة ومضايقته لعدة ساعات، وكان عذرهم في نهاية المطاف لأخذ الرشوة منه هو عدم امتلاكه شهادة الحمى الصفراء، وهي الشهادة التي تحتاج لها عند دخول البلاد وليس عند ركوب الحافلة. شرح الشرطي بصبر أن الكاميرون بحاجة إلى حمايتها من المرض. لكن رشوة صغيرة، كانت بقيمة علبتين من الجعة، أقنعته بأن هذا الوباء قد تم تجنبه، وبعد ثلاث ساعات استطاع أندرو ركوب الحافلة التالية.

إن ما حدث يشكل أنموذجاً أقل وضوحاً مما تنبأ به نموذج أولسون الذي سيقر أن نظريته، حتى في أعتى أشكالها، تقلل من الأضرار التي تلحقها الحكومات السيئة بشعوبها. يحتاج الرئيس بايا إلى إبقاء مئات الآلاف من رجال الشرطة وضباط الجيش سعداء، فضلاً عن العديد من موظفي الخدمة المدنية وغيرهم من مؤيديه. في الدكتاتورية "المثالية" (Perfect Dictatorship) سيكون عليه ببساطة فرض الضرائب الأقل ضرراً قدر الإمكان، وبأي قيمة ضرورية، ثم توزيع عائداتها على مؤيديه. لقد تبين أن هذا النهج غير قابل للتطبيق؛ لأنه يتطلب امتلاك معلومات شاملة عن الأوضاع في البلاد، وسيطرة كاملة على الاقتصاد، وهي متطلبات يصعب على حكومة فقيرة القيام بها؛ وبالتالي يصبح البديل العملي هو تسامح حكومي لفساد على نطاق واسع.

 لا يعتبر الفساد مجحفاً فحسب، بل هو أيضاً إسراف كبير. يقضي رجال الشرطة جُلَّ وقتهم في مضايقة المسافرين للحصول على عائدات متواضعة، وهو ما يسفر عن تبعات باهظة الثمن. فجميع أفراد قوات الشرطة ينشغلون بأخذ الرشاوى عن تعقب المجرمين وإلقاء القبض عليهم. وتتحول رحلة الأربع ساعات إلى رحلة خمس ساعات، يقوم خلالها المسافرون باتخاذ خطوات احترازية لحماية أنفسهم، كألاَّ يحملوا –مثلاً- إلا القليل من المال، الإقلال من السفر، اختيار الأوقات المزدحمة من اليوم للتنقل، وحمل أوراق رسمية إضافية تساعدهم على صد محاولات العسكر لانتزاع الرشاوى.

تمثل الحواجز على الطرق، وضباط الشرطة الفاسدون، شكلاً واضحاً للفساد؛ غير أن هناك حواجز طرق مجازية تنتشر في كل أرجاء الاقتصاد الكاميروني. فللقيام بعمل تجاري صغير، على المرء أن يدفع رسوماً رسمية تقارب ما يحصل عليه مواطن كاميروني خلال عامين. وقد تكلفك عملية شراء أو بيع أي ممتلكات خُمس قيمة الممتلكات نفسها. وللحصول على حكم قضائي لفرض تسديد فاتورة لم يتم تحصيلها، عليك الانتظار لما يقارب العامين، إلى جانب دفع تكاليف تفوق ثلث قيمة الفاتورة. ومع ذلك كله فإن هذا الأمر يتطلب اتخاذ 58 إجراءً مختلفاً. إن هذه اللائحة السخيفة من الإجراءات تمثل -بدون شك- فرصاً مثمرة للمسؤولين البيروقراطيين الذين يقومون بتنفيذها، فكل إجراء إداري يعد فرصة للحصول على الرشوة، وكلما كانت الإجراءات الاعتيادية بطيئة، زادت الإغراءات لدفع "مقابل تسهيلات".

تساعد قوانين العمل الصارمة على ضمان أن ذوي الخبرة المهنية فقط هم من تمنح لهم عقود رسمية، وهو ما يفرض على الكثير من النساء والشباب أن يدافعوا عن أنفسهم بحثاً عن فرص عمل في السوق الرمادية(*). هذا بالإضافة إلى ما يقوم به الروتين من إعاقة الأعمال التجارية الجديدة. فبطء عمل المحاكم يعني أن أصحاب المشاريع يُكرَهون على رفض فرص عمل جذابة مع عملاء جدد؛ لأنهم يعرفون أنه لن يكون باستطاعتهم حماية أنفسهم إذا ما تعرضوا للغش. تمتلك الدول الفقيرة أسوأ الأمثلة من هذه القوانين والإجراءات، وهذا هو أحد الأسباب الرئيسية لكونها فقيرة. فبينما يقوم المسؤولون في الدول الغنية بهذه المهام البيروقراطية الأساسية بسرعة، وبتكلفة منخفضة نسبياً، يقوم المسؤولون في الدول الفقيرة بتعقيد هذه العمليات على أمل أن يضعوا في جيوبهم بعض النقود.

 

للمؤسسات أهميتها

 إن الحكومة اللصة، والفوضى المنتشرة على نطاق واسع، والأنظمة القمعية، كلها من مكونات تلك القطعة المفقودة من لعبة الأحجية. فخلال السنوات العشر الماضية، توحدت رؤى الاقتصاديين المهتمين بقضايا التنمية على مقولة: "للمؤسسات أهميتها". وإذا كان من الصعب هنا الحصول على تعريف دقيق لمفهوم "المؤسسة"، إلا أن تحويل مؤسسة فاسدة إلى مؤسسة جيدة هو أمر أكثر صعوبة.

غير أن هناك تقدماً تم إحرازه على هذا الصعيد، فقد لاحظنا مؤخراً وجود نوع من أنواع المؤسسة، ألا وهو القوانين التجارية، وهو ما يمكن تطويره في بعض الأحيان، عن طريق ترويج بسيط. عندما أعلن البنك الدولي أن رجال الأعمال في أثيوبيا لا يمكنهم بدء أي عمل تجاري بشكل قانوني إلا بعد نشر بيانات وإعلانات رسمية في الصحف الحكومية تقارب تكلفتها قيمة رواتب موظف لأربع سنوات، قامت الحكومة الأثيوبية بإلغاء هذا الحكم، وهو ما نتج عنه ارتفاع فوري في عدد الأعمال التجارية الجديدة المسجلة رسمياً بنسبة 50 في المائة تقريباً.

إنه لمن المؤسف أن إقناع الحكومات الفاسدة بتغيير أساليبها ليس بالأمر السهل. وعلى الرغم من أنه بات واضحاً للعيان أن المؤسسات المختلة وظيفياً هي المفتاح الرئيسي لتفسير الفقر في الدول النامية، إلا أن من غير الممكن استخدام أنموذج واضح، كأنموذج أولسون، في توصيف الخلل الكامن في معظم هذه المؤسسات، أو جمع بيانات دقيقة عنها من قبل البنك الدولي. إن معظم المؤسسات البائسة تعاني من المشاكل وفقاً لطبيعتها الخاصة.

لقد أفضت مثل هذه الأنظمة المختلة إلى بناء أسوأ المكتبات في العالم. فبعد أيام قليلة من وصولي إلى الكاميرون، قمت بزيارة واحدة من أرقى المدارس الخاصة في البلاد، وهي المعادل الكاميروني لمدرسة إيتون(*). وعلى الرغم من أن المدرسة تفتخر بمكتبتها الجديدة التي تقع في مبنيين منفصلين، إلا أن أمينة المكتبة كانت مستاءة للغاية، وسرعان ما أدركتُ سبب ذلك.

للوهلة الأولى، تبدو المكتبة الجديدة مثيرة للإعجاب. وباستثناء منزل مديرة المدرسة، الفخم، كانت المكتبة هي الوحيدة التي تمتلك مبنيين من دورين في حرم المدرسة. لقد كان تصميمها مغامرة بدون شك، إذ يبدو الأمر وكأنَّ رجلاً فقيراً قام ببناء منزل يشبه مبنى دار الأوبرا في سيدني. فسقفها المنحدر، بدلاً من أن يهبط من قمة هرمية، يرتفع من الأرض إلى الأعلى على شكل الحرفV، وكأنه صفحات كتاب مفتوح موضوع على مقعد.

عندما تقف وسط أشعة الشمس الحارقة في موسم الجفاف في الكاميرون، يصعب عليك التكهن بمساوئ مثل هذا السقف، الذي يبدو على شكل كتاب مفتوح عملاق؛ هذا إذا كنت بالطبع قد تناسيت (ربما مثلما فعل المهندس المعماري) أن الكاميرون لديها أيضاً موسم أمطار طويل. ففي موسم الأمطار، تمطر السماء في الكاميرون لمدة خمسة أشهر كاملة. إنها تمطر بغزارة، حتى أن أكبر الخنادق، التي حفرت لاستيعاب مياه الفيضانات، سرعان ما تفيض. وعندما تمطر بهذه الغزارة، ويتجمع الماء فوق السقف المسطح للمدخل الرئيسي للمكتبة، ستدرك بالتأكيد أن الوقت قد حان لتغليف الكتب إنقاذاً لها. لقد كان السبب الوحيد لبقاء كتب المدرسة كما هي عليه هو أنها لم تقترب قط من المبنى الجديد؛ إذ لطالما رفضت أمينة المكتبة طلبات مديرة المدرسة المتكررة لنقل الكتب من مبنى المكتبة القديم.

عندما دخلت إلى المكتبة الجديدة لرؤية ما حل بها من دمار، تعزز لدي الاعتقاد بأن مديرة المدرسة كانت تمارس أقصى حالات الجدل والإنكار. لقد كانت المكتبة في حالة خراب شامل. كانت أرضيتها تحوي عدداً لا يحصى من بقع البرك الموحلة، وكان الهواء محملاً برائحة عفن تشبه رائحة الرطوبة في كهف، وكانت الجدران تتقشر. كل هذا ولم يمض على بناء المكتبة أكثر من أربع سنوات فقط.

لقد كان بناء هذه المكتبة تبذيراً فادحاً وخسارة فظيعة. وبدلاً من ذلك، كان يمكن للمدرسة شراء 40,000 كتاب جيد، أو شراء أجهزة كمبيوتر حديثة متصلة بشبكة إنترنت، أو توفير عدد من المنح الدراسية للأطفال الفقراء. إن أياً من هذه البدائل هو بما لا يقاس أفضل بكثير من مجرد بناء مكتبة جديدة غير مؤهلة للاستخدام. هذا بالإضافة إلى أن المدرسة لم تكن على الإطلاق بحاجة إلى مكتبة جديدة، فالمكتبة القديمة كانت تقوم بوظيفتها على أكمل وجه، وما تزال قادرة على استيعاب ثلاثة أضعاف الكتب الموجودة حالياً، وهي مع كل هذا مقاومة للأمطار.

 إذا كانت المكتبة مسعىً لا طائل منه، فلماذا تم بناؤها على الإطلاق؟ سيكون مغرياً للزائر في الكاميرون هزّ كتفيه مفسراً فقر البلاد بافتراض أن الكاميرونيين مجموعة من البلهاء. من المؤكد أن الكاميرونيين ليسوا أكثر غباءً ولا ذكاءً من الآخرين. فما يمكن وصفها بالأخطاء الغبية تنتشر في كل أرجاء الكاميرون، إلى الدرجة التي لا يمكن معها أن تكون قلة الخبرة، أو عدم التأهيل والكفاءة، هو التفسير الكامل لانتشارها. هناك شيء أكثر منهجية في إنتاج مثل هذه الأعمال الخاطئة، وبالتالي فإن علينا الأخذ بعين الاعتبار البواعث والنوايا التي يملكها صناع القرار.

أولاً: إن معظم كبار مسؤولي التعليم في شمال غرب الكاميرون يأتون من بلدة صغيرة تسمى "بافوت". يتحكم هؤلاء المسؤولون، الذين يُعرفون بـ"مافيا بافوت"، بالتمويلات الضخمة لنظام التعليم، وهي التمويلات التي يقدمونها على أساس العلاقات الشخصية، وليس بسبب ما تقتضيه الضرورة. ولن نستغرب إذا ما عرفنا أن مديرة هذه المدرسة المرموقة هي عضو بارز في "مافيا بافوت". ولنيتها في تحويل المدرسة إلى جامعة، قامت مديرة المدرسة ببناء مكتبة بحجم ونوعية مكتبة جامعية، من دون أن يعنيها كثيراً كون المكتبة الحالية أكثر من كافية، وأن أموال دافعي الضرائب كان بالإمكان إنفاقها بشكل أفضل، إما لأغراض أخرى، وإما لمنفعة مدارس أخرى.

 ثانياً: لم يكن هناك من يراقب مديرة المدرسة أو طريقة إنفاقها للأموال. ولم يكن الموظفون في المدرسة يتقاضون رواتبهم، أو يتم ترقيتهم، بناءً على جدارتهم، بل كان يتم ذلك بأوامرها المباشرة. إن مدرسة عريقة كهذه توفر لموظفيها ومدرسيها ظروفاً مالية جيدة تجعلهم حريصين على بقائهم في  وظائفهم، وهو ما يستلزم الحفاظ على علاقة جيدة مع المديرة. لقد كانت أمينة المكتبة هي الشخص الوحيد القادر، في حقيقة الأمر، على الوقوف في وجه مديرة المدرسة وتحديها، فلم يكن للمديرة سلطة مباشرة على أمينة المكتبة، التي كان عملها يقع مباشرة ضمن مسؤولية "مكتب الخدمات التطوعية لما وراء البحار" في لندن. وعلى الرغم من أنها تسلمت عملها بعد أن تم بناء المكتبة الجديدة، إلا أن ذلك كان، على الأقل، في الوقت المناسب لمنع نقل الكتب وتدميرها.

هل كانت مديرة المدرسة من الغباء بحيث لم تدرك ما يمكن أن تسببه مياه الأمطار من أضرار وإتلاف للكتب؟ أم أنها لم تكن تكترث كثيراً بالكتب بقدر ما كانت مهتمة بإثبات قدرتها على بناء مكتبة جديدة، حتى وإن احتوت على القليل من الكتب؟ يبدو الاحتمال الثاني هو الأقرب إلى التصديق. فمع توفر الأموال والتصرف بها رهن أشارتها، وغياب أي معترض على ما تقوم به من تبذير في بناء مكتبة جديدة، كان لمديرة المدرسة سلطة مطلقة للتحكم في سير عمل المشروع. ونزولاً عند رغبتها، ربما في تقديم برهان آخر على نوعية التعليم الذي تقدمه المدرسة، قامت المديرة بتعيين تلميذ سابق في المدرسة مهندساً معمارياً لتصميم مبنى المكتبة. وهي وإن كانت قد نجحت في إبراز وجهة نظرها، إلا أن ما تم إنجازه لم يكن تماماً ما كانت تقصده. فبغضِّ النظر عن عدم كفاءة المهندس المعماري، كانت العيوب العديدة التي احتوتها التصاميم واضحة للعيان، وكان يمكن اكتشافها لو أن أياً من القائمين على المشروع كان حريصاً على التأكد من أن ما يتم بناؤه هو بالفعل مكتبة وليس أي شيئاً آخر. لكن هذا لم يكن أبداً هو الشاغل الأول لأي من المسؤولين، فجُلّ ما كانوا يهدفون إليه هو تأهيل المدرسة لتصبح جامعة.

لنأخذ بعين الاعتبار الوضع التالي: أموالٌ تم توفيرها بسبب علاقات شخصية بحتة وليس بسبب احتياج فعلي، مشروعٌ تم تصميمه لغرض التباهي أكثر من كونه لغرض الاستخدام العملي، غياب المراقبة والمساءلة، مهندسٌ معماري تم تعيينه لغرض التفاخر من قبل شخص لا يهتم كثيراً بنوعية العمل. إن نتائج وضعاً كهذا لا يمكن أن تكون مستغربة: إنجاز مشروع لم يكن من المفروض إن يقام، وإنجازه على نحو سيئ. قد يوحي الدرس المستفاد من هذه القصة أن الطموحين وأصحاب المصالح الذاتية من متخذي القرار هم غالباً سبب إهدار الأموال في الدول النامية. لكن لا تخلو سلطة أي دولة من دول العالم، كبيرة كانت أم صغيرة، من  أي ذوي المصالح الذاتية والطموح. غير أن الفارق هو أن مثل هؤلاء، في دول كثيرة، مقيدون بسلطة القانون، الصحافة، والمعارضة الديمقراطية. إن مشكلة الكاميرون تكمن في كونها إحدى تلك الدول التي لا تملك أي قيود على أصحاب المصالح الذاتية.

هل للتنمية أي فرصة؟

عادة ما يركز المتخصصون في قضايا التنمية على مساعدة الدول الفقيرة لتصبح أكثر ثراء، عن طريق تحسين التعليم الابتدائي والبنى التحتية، مثل الطرق وخدمات الهاتف. وعلى الرغم من معقولية هذا، إلا أنه للأسف لا يمثل  سوى جزء صغير من المشكلة. إن الاقتصاديين الذين عاينوا الإحصاءات جيداً، ودرسوا البيانات غير الاعتيادية، مثل مقارنة ما يجنيه المواطن الكاميروني داخل الكاميرون وما يجنيه المهاجر الكاميروني في الولايات المتحدة، استنتجوا أن وجود التعليم، البنى التحتية، والمصانع، ما هو إلا البداية لتجسير هذه الفجوة بين الأغنياء والفقراء. إن سوء نظام التعليم في الكاميرون هو السبب الرئيس في كونها أفقر بمرتين مما يمكن أن تكون عليه. ويأتي بعد ذلك سوء بنيتها التحتية. إننا بذلك نتوقع أن تكون الكاميرون أكثر فقراً بأربع مرات من الولايات المتحدة؛ غير أنها أكثر فقراً بخمسين مرة.

إن الأهم من ذلك كله هو: لماذا يبدو الشعب الكاميروني غير قادر على فعل أي شيء حيال ذلك؟ ألا يمكن للمجتمع المحلي تحسين المدارس؟ ألا يمكن للفوائد المرجوة أن تفوق، وبسهولة، التكاليف؟ ألا يستطيع رجال الأعمال الكاميرونيين بناء المصانع، ترخيص صناعات التكنولوجيا، البحث عن شركاء أجانب، وتحقيق ثروة؟

 إن الشواهد تبين أن الإجابة على هذه الأسئلة هي: لا؛ فالفساد الحكومي المستفحل في قمة الهرم الحكومي، كما يوضح لنا أولسون في افتراضيته، يعوق مسيرة النمو في الدول الفقيرة. إن وجود لص في منصب رئيس الدولة لا يفضي بالضرورة إلى الموت التام؛ فالرئيس قد يفضل نمو اقتصاد البلاد ومن ثم الحصول على حصة أكبر من الكعكة. لكن حتى في هذه الحالة، لا بد أن تنتشر عمليات النهب على نطاق واسع؛ إما لأن الدكتاتور ليس قادراً على إدارة دفة الحكم؛ وإما لأنه بحاجة إلى السماح للآخرين بالسرقة، من أجل الحفاظ على دعمهم له.

وإذا كان الفساد عادة ما يبدأ في الحكومة، إلا أنه بالتأكيد سيصيب المجتمع بأسره، وبالتالي لن يكون هناك أي جدوى من الاستثمار في الأعمال التجارية، لأن الحكومة لن تحميك من اللصوص (هذا إذا لم تتحول أنت إلى لص أيضاً)، ولن يكون هناك ما يستدعي دفع فاتورة هاتفك، لأنه لا يمكن للمحكمة أن ترغمك على فعل ذلك (وبالتالي لن يكون مجدياً أن تمتلك شركة للهاتف). لن يجدي الاستثمار في مجال الاستيراد، ذلك أن ضباط الجمارك سيكونون هم المستفيدين من ذلك (سيترتب على ذلك نقص في موارد مكتب الجمارك، وسيصبح بالتالي أكثر تصميماً للحصول على الرشاوى). ولن يجدي تحصيل التعليم في شيء، فالوظائف لا يتم الحصول عليها وفقاً للجدارة (وعلى أية حال، لن يكون بإمكانك اقتراض المال لدفع الرسوم الدراسية، لأن البنوك لن تتمكن من استرجاع القروض).

ليس بالشيء الجديد القول إن الفساد والحوافز الخبيثة يشكلان همَّاً كبيراً؛ لكن ما يمكن أن يكون جديداً هو أن مشكلة القوانين المختلة والمؤسسات المشوهة لا تفسر بعضاً من أسباب الفجوة بين الدول الغنية والكاميرون فحسب، بل ربما جميعها. إن الكاميرون، ومثيلاتها من الدول، تعيش في مستوى أقل بكثير من قدراتها المتاحة، حتى لو أخذنا بعين الاعتبار ضعف بنيتها التحتية، وانخفاض مستوى الاستثمار والتعليم، إذ إن الأسوأ من ذلك هو ما تقوم به شبكة الفساد من إحباط لأي مجهود يبذل لتحسين البنية التحتية وجذب الاستثمارات ورفع المعايير التعليمية.

إننا ما نزال عاجزين عن إيجاد التعبير المناسب لوصف ذلك الشيء المفقود، سواءً في الكاميرون، أم في بقية الدول الفقيرة في جميع أنحاء العالم؛ لكننا على الأقل بدأنا نستوعب ما هو هذا الشيء. بعض الناس يسمونه "رأس المال الاجتماعي"، أو ربما "الثقة"، بينما يسميه آخرون "سيادة القانون"، أو "المؤسسات". لكن ما سبق ذكره لا يعدو أن يكون مجرد مسميات. إن المشكلة الرئيسية هي أن الكاميرون، على غرار الدول الفقيرة الأخرى، مكانٌ ممتلئ بالفوضى، وتسير فيه الأمور مقلوبة رأساً على عقب؛ إذ يحرص معظم سكانه على تحقيق مصالحهم عن طريق القيام بأفعال وسلوكيات من شأنها الإضرار، مباشرة، أو غير مباشرة، بمصالح الآخرين. ونتيجة لذلك، فإن الدوافع التي يملكها الناس لتحقيق الثراء تقع في الأخير على رؤوسهم، على غرار سقف مكتبة المدرسة المتهالك.

 


(*) Tim Harford باحث وخبير اقتصادي بريطاني، يكتب مقالات اقتصادية في صحيفة "فاينانشل تايمز". له عدد من الكتب الاقتصادية، منها كتابه الشهير: "الاقتصادي السري"، إلى جانب عدد من البرامج التلفزيونية والإذاعية.

(**) نائب رئيس مركز الدراسات والبحوث اليمني. باحث زائر في معهد أبحاث الكومبيوتر بجامعة "لندن ساوث بانك" - بريطانيا.

 

(*)  Robert Lucasأستاذ الاقتصاد في جامعة "شيكاغو"، وأحد أهم عشرة أكاديميين اقتصاديين في العالم. حصل على جائزة نوبل في الاقتصاد عام 1995. له دراسات مهمة حول حيادية العملة النقدية، والعلاقة بين التضخم والبطالة (المترجم).

(*) ما يزال الرئيس بول بايا (Paul Biya) في الحكم حتى نشر هذه الترجمة. (المترجم).

(*) Mancur Olson  خبير اقتصادي أمريكي، أستاذ في جامعة "ماريلاند". له دراسات عديدة حول: أهمية الملكية الخاصة، الضرائب، والحقوق التعاقدية في التنمية الاقتصادية (المترجم).

(**) أنظر كتابه "القوة والرفاهية: نمو الدكتاتوريات الشيوعية والرأسمالية"، مطبوعات جامعة أكسفورد، 2000 (المترجم).

(*) في الأول من يناير عام 1960، حصل الجزء الفرنسي من الكاميرون على استقلاله، ليتوحد في الأول من أكتوبر عام 1961م مع الجزء الجنوبي الذي كان تحت الاحتلال البريطاني، ليتم إعلان قيام جمهورية الكاميرون الفدرالية. في عام 1972 تم إعلان قيام جمهورية الكاميرون الاتحادية، ليتم تسميتها بـ"جمهورية الكاميرون" عام 1984 (المترجم).

(*) السوق الرمادية: سوق غير رسمية عادة ما تقام فيها عمليات الشراء والبيع في أماكن غير مرخصة وبأسعار أقل من السعر الرسمي المعتمد. وهي تختلف عن السوق السوداء في كون البضائع التي يتم المتاجرة بها قانونية (المترجم).

(*) مدرسة دولية خاصة مشهورة، لها فروع عدة حول العالم (المترجم).